يمثل المعسكر الذي يتواجد فيه مقاتلون من الجناح العسكري للمعارضة الإيرانية (مجاهدين خلق) مفصلا لمرحلة زمنية مضت في منطقة الشرق الأوسط، ومرحلة أخرى تبدو من بعيد غير واضحة المعالم. يعيش نحو 3 آلاف رجل تجاوز 70% منهم سن الخمسين عاما على بعد نحو مائة كيلومتر غرب الحدود الإيرانية مع العراق، حيث معسكر أشرف، أو ما أصبحت تطلق عليه السلطات العراقية «معسكر العراق الجديد».
وفي خضم صراع أجهزة المخابرات والساسة، قرر هؤلاء المقاتلون الإيرانيون القدامى الدخول في مرحلة يسمونها «الثبات على التشكيلات»، أملا في انقضاء هذه السنوات التي لا تريد أن تظهر فيها أي معالم لطريق.. هل سيستمرون في البقاء هنا داخل هذا المعسكر، حيث يعارض الكثير من الساسة العراقيين الموالين لإيران بقاءهم داخل الأراضي العراقية.. هل ستستقبلهم إحدى الدول العربية، مثل مصر مثلا المقطوعة علاقتها أصلا بإيران منذ نحو 30 عاما. هل يمكن أن تعفو عنهم السلطات الإيرانية إذا حاولوا العودة والتوقيع على ما يسمى في طهران «عهد الأمان». هل يمكن أن يعيد الجيش الأميركي في العراق توفير الحماية لهم كورقة ضغط من الدول الغربية على إيران بسبب برنامجها النووي.
واحتفلت قيادات الحركة بالإنجاز الوحيد الذي تمكنت من تحقيقه في العشرين سنة الأخيرة، وهو شطب اسمها من قوائم المنظمات الإرهابية في كثير من الدول، وهو إجراء أغضب إيران، وجعلها تقول إن هذا برهان على أن الدول الغربية تريد أن تستغل الحركة في محاصرة السلطات الإيرانية، إلى جانب الحصار الاقتصادي المتصاعد. ويقول مسؤول في الحكومة الإيرانية لـ«الشرق الأوسط» حين التقته في طهران الأسبوع الماضي: «مجاهدين خلق لم تعد كما كانت في السابق.. لا نرى أنها تمثل خطرا على الثورة الإسلامية.. إنها محاصرة، وبلا مستقبل».
وفي الوقت الحالي تشكو منظمة مجاهدين خلق مما تدعي أنها ضغوط تمارسها المخابرات الإيرانية على جنود المعسكر من خلال إرسال ما تعتبره «خلق» عناصر تزعم أنها عوائل إيرانية لمقاتلين موجودين داخل المعسكر، قائلة إن هذه العوائل المزعومة تحاول الضغط نفسيا على جنود مقاتليها، وإن دخولهم إلى الأراضي العراقية وقدرتهم على الوصول إلى المعسكر يتم من خلال تعاون بين الحكومة الإيرانية والموالين لها في الحكومة العراقية. وتقدمت «خلق» بشكاوى بهذا الخصوص للمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان. لكن الرجال والنساء والشبان والفتيات الذين يرابطون منذ عدة أسابيع أمام معسكر أشرف يقولون في المقابل إنهم لا يريدون استعادة أبنائهم «فهم أحرار في توجهاتهم، لكنهم يريدون فقط معرفة ما إذا كانوا على قيد الحياة وأصحاء أم أنهم قد قضوا نحبهم».
وتوجهت بعض هؤلاء النسوة من مدن إيرانية بعيدة إلى معسكر أشرف وعُدن دون إجابة على سؤالهن، ودون أن تتمكن أي منهن من معرفة مصير ابنها أو زوجها أو والدها. ويقول العضو السابق في منظمة مجاهدين خلق محمد باقر مؤمن زادة الذي التقته «الشرق الأوسط» في مدينة شيراز (نحو 1000 كلم جنوب العاصمة طهران) إن هذه العوائل الإيرانية تريد، بعد نحو ثلاثة عقود من الفراق، أن تعرف أخبار ذويها من مجاهدين خلق. وكان زادة يتحدث وسط مجموعة من النسوة اللائي جئن يطلبن المساعدة من فرع جمعية «نجات» المعنية بعوائل جنود «خلق» في مدينة شيراز. ويترأس هذا الرجل، الذي نفَّذ عمليتين في ثمانينات القرن الماضي ضد قيادات في الحكومة الإيرانية، فرع الجمعية في تلك المدينة التي تبعد عن معسكر أشرف نحو ألف وأربعمائة كيلومتر.
وتروي ابنة رجل من مجاهدين خلق، تدعى ريم، مسيرة رحلتها إلى معسكر أشرف، مدافعة عن استقلالية تحركها حيث قالت إنه نابع من «هواجسها، ومخاوفها»، و«في الأيام الأخيرة كنت أحلم بأبي كل ليلة.. كان كأنه يناديني.. لا أعرف إن كان ما زال حيا أو أنه مات». ولم تتمكن هذه الفتاة المجللة بالسواد من معرفة مصير والدها، على الرغم من أنها وقفت مع عشرات من بعض ذوي الموجودين في معسكر أشرف، حاملة صورة والدها حُسيني.. اعتصمت أمام المعسكر مع اثنين من أولاد رجل يدعى يوسفي (علي وبرات). وحين استبد بها اليأس شاركت ريم ذوي أعضاء في منظمة «خلق» في قرع الأسيجة الحديدية لمعسكر أشرف بالأواني والحجارة.. «أخذت أهتف مع الآخرين: الله أكبر الله أكبر.. يا حسين يا حسين.. بعض المسنين انهار وسقط من الإعياء»، وشاركت ريم أيضا في محاولة أخرى لخلع بوابة المعسكر بالقوة للوصول إلى والدها.. «حين سقطت البوابة ودخلنا لم نعرف إلى أين نذهب، كما أن الجنود العراقيين تصدوا لنا من داخل المعسكر.. المساحة كبيرة، والمباني مبعثرة في عدة أركان بعيدة، ولم يظهر لنا أي أحد من سكان المعسكر (الإيرانيين)». وأمضى محمد باقر مؤمن زادة سنوات في منظمة مجاهدين خلق نفذ خلالها عمليات، وعمل كمراسل بين قيادييها وأعضائها، وعمل أيضا داخل معسكر أشرف، وسجن داخله حين تمرد على توجهات المنظمة قبل أن ينتهي به المطاف في سجن «أبو غريب» الشهير محكوما عليه من القضاء العراقي بالسجن ست سنوات بتهمة دخول الأراضي العراقية من دون إذن. وسبق لزادة أن حكمت عليه السلطات الإيرانية بالسجن في سجن أوين بطهران عشر سنوات لضلوعه في محاولتي اغتيال، واحدة في العاصمة والأخرى في مدينة شيراز. ويقول: «التحقت بمنظمة مجاهدين خلق وعمري 13 سنة، ونفذت عمليتين (إرهابيتين) وسجنت في سجن أوين في طهران، وبعد 10 سنوات في السجن طلب مني مجاهدين خلق أن ألتحق بهم في العراق.. كنت وسيطا بين أفراد المجاهدين، أرتب لهم السفريات والتنقلات والتحركات. قالوا لي تعال إلى معسكر أشرف. كان هذا قبل نحو 13 سنة. حين ذهبت لمعسكر أشرف فوجئت بالتغير الكبير الذي حدث لهم. وبعد سنة في معسكر أشرف قلت لهم لا أريد أن أستمر، وأريد الخروج من العراق.. وبهذا بدأت المشكلات. وبهذا قضيت سبعة أشهر في زنزانة داخل معسكر أشرف، وكان معي نحو 80 آخرين نعارض الاستمرار في البقاء في المعسكر».
ويتذكر زادة فترة بقائه هناك قائلا: إن معسكر أشرف «أصبح مخيفا جدا، لأن الزواج ممنوع، والتفكير في العائلة ممنوع، ويوجد غسيل أسبوعي لكل ما قد يعلق بالفكر.. مثلا يتقدم أحد الأعضاء ويعترف بأن ذهنه مشغول بعائلته، أو بأمه، أو بأخته.. أنا أعتقد أن هذا إسلام جديد.. فيه اعتراف مثل الاعتراف بالذنوب في النظام الكنسي. حدثت تغيرات كبيرة لم تكن موجودة من قبل في فكر مجاهدين خلق. ليست تغيرات في التوجهات السياسية فقط. من المفترض أن العقيدة والآيديولوجيا هي التي تحكم عمل السياسي، لكن في مجاهدين خلق أصبحت أعمال السياسة هي التي تحكم الآيديولوجيا».
ويقول زادة الذي يكمل دراسته في كلية الإلكترونيك في إيران، ويعمل في الوقت الحالي مصورا لحفلات الزفاف في مدينة شيراز: «قام مجاهدين خلق بتسليمي مع الثمانين الآخرين إلى المخابرات العراقية زمن صدام حسين، وأمضينا ستة أشهر لدى المخابرات العراقية في الزنازين تحت التعذيب والضرب والتحقيقات.. ووجهوا لي في المحكمة العراقية تهمة تجاوز الحدود الإيرانية العراقية، وحكموا علي بالسجن لمدة 6 سنوات.. أمضيت في أبو غريب خمس سنوات، وقبل 24 ساعة من الهجوم الأميركي على العراق تبادلت الحكومتان الإيرانية والعراقية بعض الأسرى فيما بينهما، وكنت أنا وبعض زملائي في مجاهدين خلق من ضمن هذه الصفقة».
ويضيف زادة إن كل من جاءوا من العراق لإيران أمضوا أسبوعا في الاحتجاز بإيران قبل إطلاق سراحهم. وكانت شروط السلطات الإيرانية هي «أن لا نخالف نظام الدولة الإيرانية ولا نقوم بأي عمليات إرهابية ولا نرتبط بمجاهدين خلق مرة أخرى». ويقول قيادي سابق في مجاهدين خلق التقته «الشرق الأوسط» في العاصمة طهران: «لم تعد لديهم أسلحة.. حتى الخشب ليس عندهم. كل شغلهم استقرار التشكيلات للمجاهدين. الإبقاء على الالتزام بالدستور (دستور خلق) والتقيد بالأوامر وتسلسلها الآن هي بالنسبة لهم أهم من كل شيء.. هذا يبغون من خلاله البقاء هناك. هم يفكرون إذا معسكر (خلق) تلاشى، فكل المجاهدين يتلاشون».
ويعتقد زادة أن مستقبل معسكر أشرف يرتبط بشكل مباشر بالتجاذبات والتوازنات داخل المنطقة: موقف الحكومة العراقية الجديدة، العلاقة بين العرب وإيران، التفاهم أو عدم التفاهم مع الغرب حول الملف النووي الإيراني.. ويعتقد أيضا أن «حماية معسكر أشرف حاليا تقف وراءها أميركا.. هي (أميركا) تقول إنه لا بد أن يبقى، وترى أن طهران إذا قبلت شروط أميركا فإن أميركا ستقدم كل من في معسكر أشرف لإيران. لكن إيران ترى أن معسكر أشرف لم يعد مهما. لم تعد توجد في المعسكر معارضة قوية للنظام الإيراني. أكثر من في المعسكر، نحو 70%، يزيد عمرهم عن خمسين سنة».
ويعيش زادة الآن مع ذكريات عن عمليات قام بتنفيذها في الماضي مع آخرين من مجاهدين خلق.. «فجرت سيارة هنا في شيراز. كان المفروض أن يصدر ضدي حكم بالإعدام، لكن عمري وقت تنفيذ التفجير كان 13 سنة. أنا قمت بهذا العمل بعد أن صدر لي أمر من مسؤولي تشكيلات مجاهدين خلق.. كان كل شيء دقيقا في ترتيب العملية لتفجير سيارتين حكوميتين بمن فيهما من أشخاص.. كنا خمسة أشخاص.. واحدا يراقب وآخر أغلق الشارع، وثالثا لزق القنبلة ببلاستر مزود بقفل ولا يفتح بأي مفتاح، وآخر ألقى قنبلة مولوتوف أخرى. العملية كانت في شارع آريا بشيراز ضد أشخاص من الحكومة الإيرانية. فجرنا السيارتين وكان فيهما ناس نظاميون وجرحوا ولم يموتوا».
أما العملية الثانية التي شارك زادة في تنفيذها فكانت في العاصمة لقتل رجل في سلطة الجمهورية الإسلامية بـ(إيران) يدعى آية الله قراءاتي.. «ذهبنا لطهران، وكان تنفيذ العملية في شارع شريعتي.. أطلقنا النار عليه حين خروجه من منزله، لكنه هرب. العملية لم توفق. وبعد أن عدت لإيران التقيت به، وتحدثت معه عن هذه العملية، وقال لي ماذا فعلت لك وأنت تريد قتلي، وقلت له أنا كان عمري 13 سنة. وأنا رضيت عن نفسي بعد أن سامحني». ويعتبر زادة نفسه حاليا رجلا مستقلا. سألته «الشرق الأوسط»: هل أنت ما زلت معارضا للنظام الإيراني الحالي أم أنك أصبحت مؤيدا له، فأجاب قائلا: أنا الآن في جمعية «نجات»، وهي جمعية مستقلة، ليست تبع الحكومة ولا المعارضة.. أعيش في إيران مثل أي مواطن إيراني عادي. معي جواز سفر ومسموح لي بالسفر لكل الدول. ما أستطيع أن أؤكد عليه هو أنني كنت ضحية للإرهاب، وما أعمل عليه هو أن تتمكن الجمعية من ترتيب لقاءات بين الأسر وأبنائها الموجودين في معسكر أشرف.. «ما نريده هو الحصول على أخبار عنهم.. من مات ومن ما زال على قيد الحياة. مريض أم سليم. يوجد في شيراز 80 عائلة لها أولاد في معسكر أشرف. و3 آلاف عائلة على مستوى إيران لها أولاد هناك». ويضيف زادة أن عدد الذين رجعوا من العراق منذ عام 2003 إلى الآن وصل إلى نحو 1000 عضو من أعضاء مجاهدين خلق.
وتعتقد شخصيات إيرانية مستقلة ومعارضة أن السلطات في طهران تقف وراء الكثير من الجمعيات التي تهدف إلى الخلخلة النفسية لعناصر «خلق» المقيمين في معسكر أشرف واستعادة من يمكن استعادته، قبل أن ينتقلوا إلى أماكن أخرى كأوروبا أو أي من البلاد العربية البعيدة عن الحدود مع إيران.. ويضيف صحافي إيراني: «نعتقد أن من مصلحة إيران أن يبقى أعضاء «خلق» في معسكر أشرف، قرب حدود إيران، لأنه من السهل وصول الاستخبارات الإيرانية إليهم.. ومن مصلحة أميركا أن يظل معسكر أشرف في مكانه حتى يمكن تغذيته واستعادة مكانته كمكان تهديد للنظام الإيراني، ومن مصلحة المتنافسين السياسيين في العراق أن يستمر تواجد المعسكر في الأراضي العراقية لاستثماره في علاقة أي حكومة جديدة في بغداد مع طهران.. هذا أمر مثير للشفقة، لأن غالبية من هم داخل المعسكر يعانون من ظروف صعبة.. أعتقد أن مصير مجاهدين خلق في معسكر أشرف لم يحدث مثله في التاريخ.. أناس معلقون على مصائر متشابكة ومتقاطعة ولا يعرفون إلى أين سيكون مصيرهم». ويشير أحد أنصار المعارضة ممن شاركوا في انتفاضة ضد إعادة انتخاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بالقول إن العائدين لإيران من مجاهدين خلق يجبرون على توقيع عهد أمان بحيث يلتزمون بالقوانين والدستور ومبادئ الثورة الإسلامية.. «بعض العائدين يتم دعمهم من جانب السلطات واستخدامهم في محاولات لإقناع الآخرين بالعودة والاستفادة من العفو الذي سبق أن أصدرته الحكومة الإيرانية لصالح أعضاء «خلق» ممن لم يرتكب جرائم قتل في إيران، أما من سبق ونفذوا أعمالا في إيران ضد الحكومة فتنتظرهم أحكام تصل إلى الإعدام بتهمة المحاربة»، مشيرا إلى أن هذا ينطبق على من ثبت مشاركتهم الجيش العراقي في الحرب ضد إيران في الفترة من عام 1980 إلى عام 1988.
وعلى الرغم من العداء القديم بين «خلق» والدول الغربية، باعتبار «خلق» منظمة يسارية في الأساس، ووصمها في ما بعد بالإرهاب، تعاملت قوات الاحتلال الأميركي في العراق مع سكان معسكر أشرف، بداية من عام 2004، باعتبارهم «أشخاصا محميين»، إلى أن نقلت مسؤولية حمايتهم إلى الحكومة العراقية العام الماضي، كما تم بعد ذلك نزع صفة الإرهاب عنهم، والتعامل معهم كجزء من المعارضة الإيرانية.
وتتهم منظمة «خلق»، في بياناتها، «النظام الإيراني» بإرسال عملاء تحت أسماء عوائل سكان معسكر أشرف إلى بوابة المعسكر على الأراضي العراقية لممارسة ضغوط نفسية على الموجودين داخل المعسكر من خلال المناداة بمكبرات الصوت على أسماء من أعضاء المنظمة، وكذا من خلال القرع طوال النهار والليل على الجدران الحديدية للمعسكر، وهم يهتفون «الموت للمجاهدين» و«تحيا الجمهورية الإسلامية» ويمارسون التعذيب النفسي بحق سكان «أشرف».. كما تتهم المنظمة بعض الأطراف من السياسيين العراقيين بتسهيل مهمة من تسميهم عملاء المخابرات الإيرانية الذين يترددون على بوابة المعسكر، وكذا بتوجيه اتهامات للشرطة العراقية بالاعتداء على سكان المعسكر للتضييق عليهم، وتعتبر المنظمة وجودها في العراق «وجود لاجئين إيرانيين» لا يجوز تسليمهم إلى ما تسميه «نظام الملالي» في طهران. ويحاول قيادات «خلق» حشد رأي عام في أوروبا وأميركا لصالح قضيتهم، مطالبين الأمم المتحدة بـ«اتخاذ إجراءات سريعة لحماية السكان اللاجئين العزل في مخيم (أشرف) ووضع المخيم تحت الحماية المباشرة للأمم المتحدة».
طهران: عبد الستار حتيتة