تتعدّد شواهد عدم مبدئية القوى الغربية فى تعاطيها مع قضايا كثيرة، وتبنيها أو تغاضيها عن مواقف وممارسات تخالف المُعلن من جانبها إزاء تلك القضايا، ومنها قضية الإرهاب، وتعريف مَن هو الإرهابي الذي ليس له تعريف محدّد عند دول غربية. ولن نكون مغالين، لو قلنا إنها تعريفات تُطلق وفقاً للمصلحة، وليس بمقتضى حالة التهديد التي يمثّلها، أو تمثّلها، جهة ما لتستحق أن تلحقها صفة الإرهاب
وشواهد التعريف الغربي، وفقاً لمنطلقات المصلحة، تفوق إمكانية الحصر، أبسطها ما شهدناه فى تعامل الولايات المتحدة مع القضية الكردية، فى شقيها العراقي والتركي. في الحالة الأولى، كان أكراد العراق مناضلين وأصحاب قضية، وجرى تبني تحريرهم وتخليصهم من حكم صدام حسين، بجعل كل إقليمهم منطقة حظر جوي، وضعت أكراد العراق، بعد نحو عقدين ونصف من فرض ذلك الحظر الجوي، على أعتاب تأسيس دولة مستقلة. ولم تعدم واشنطن تبريراً، ولا حيلة، وهي تتخذ موقفاً على النقيض من موقفها مع أكراد العراق، إزاء نظرائهم أكراد تركيا الذين عدّتهم إرهابيين، وساعدت الدولة التركية على ملاحقتهم في الفترة التى سبقت وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. والذي شرع فى مفاوضة الأكراد واعترف بهم ككرد، وليس كأتراك جبليين، كما كانت تسميهم حكومات أنقرة السابقة، وتبع ذلك الإقرار بحقوقهم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الكثيرة.
في العام قبل الماضي، رفعت واشنطن اسم منظمة مجاهدي خلق الإيرانية من قائمة المنظمات الإرهابية، وهي خطوة دارت شكوك كثيرة بشأن دوافعها، وأحاطت بحيثياتها ظنون كثيرة بشأن أن المنظمة، المناهضة لحكم ملالي طهران، وظّفت جماعات ضغط وضخّت أموالاً كثيرة، ففعلت فعلها، حتى تبنى الكونغرس قراراً برفع اسمها عن قائمة المنظمات الإرهابية. وفي الأسابيع القليلة الماضية، شهدنا جدلاً دار في دول أوروبية بشأن توجّه عدد من مواطنيها الشبان المتحدرين من أصول عربية، أو من بلدان مسلمة، للقتال في سورية والعراق تحت راية داعش، والتخوّف من مقدار الخطر الأمني الذي قد يمثلونه حال عودتهم إلى بلدانهم الأوروبية.
ماكس شاتينبرغ، البالغ 24 عاماً، ونسيم كرميلي وعمره 21 عاماً، كانا من ضمن ثلاثة عشر جندياً إسرائيلياً سقطوا قتلى بنيران فصائل المقاومة الفلسطينية فى غزة، في أولى موجات الهجوم البري الإسرائيلي على القطاع. وهما متطوعان في الجيش الإسرائيلي من يهود الولايات المتحدة. وتفيد تخميناتٌ بأن عدد المتطوعين الأجانب في هذا الجيش يصل إلى خمسة آلاف، يأتون من الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا، ويطلق على الواحد منهم لقب "الجندي الوحيد"، لتركه عائلته في بلده وذهابه إلى إسرائيل. ويتم تجنيد هؤلاء في حملات يُطلق عليها اسم حملات "النداء"، وتنظمها منظمات يهودية، وعند التحاقهم بالجيش الإسرائيلي يتقاضون مرتباتٍ تفوق ما يتلقاه نظراؤهم الإسرائيليون. ومع هذا، لا أحد يصفهم بأنهم إرهابيون عابرو حدود، أو مرتزقة، ولم يتحدث أحد عن أنهم سيشكلون خطراً على أمن الولايات المتحدة، أو أوروبا أو أستراليا، عند فراغهم من مهامهم القتالية في الأرض المحتلة.
أخيراً، استقال مارتن أنديك من منصبه وسيطاً أميركياً لعملية السلام في الشرق الأوسط، وكان قد شغل في التسعينيات منصب سفير واشنطن في تل أبيب، وهو أصلاً يهودي أسترالي هاجر إلى الولايات المتحدة مطلع الثمانينات. وكان في لقاءٍ تلفزيوني معه قد فاخر بتطوعه لتنظيف شوارع تل أبيب في أثناء حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، حيث كان يومئذٍ طالباً في إحدى جامعات بلده الأصلي، أستراليا. فلنتأمل مقدار الدعم الذي يقدّم لإسرائيل، ولا يقف عند حد من بندقية وديبلوماسية و"فيتو"، وجنود على شاكلة ماكس شاتينبرغ ونسيم كرميلي، اللذين لو لم يصرعهما رجال القسام، لسمعنا اسم أحدهما مستقبلاً يتردد في نشرات الأخبار رسولاً أميركياً للسلام، يجالس محمود عباس أو يعد الحبكات مع محمد دحلان.
خالد هاشم خلف الله السودان