أصبحت ألبانيا موطن زمره مجاهدي خلق الإيرانية الإرهابية منذ سنوات. لكن غادرها مئات الأعضاء، بعضهم كان يشكو من قواعد الزمره الصارمة التي تفرض العزوبية والتحكم في حياتهم الخاصة وعلاقاتتهم بعائلاتهم.
وحالياً، يعيش العشرات منهم في العاصمة الألبانية، تيرانا، وليس باستطاعتهم العودة إلى إيران أو مواصلة حياتهم بشكل طبيعي.
“لم أتحدث مع زوجتي وابني منذ أكثر من 37 عاماً، كانوا يظنون أنني ميت منذ زمن، لكن قلت لهم: “لا، ما زلت حياً أرزق وأعيش في ألبانيا،…”لقد بكوا كثيراً”.
وكان هذا الاتصال الأول لغلام ميرزاي مع أسرته عبر الهاتف بعد سنوات طويلة، كان الأمر صعباً عليه أيضاً.
و يبلغ عمر غلام ميرزاي 60 عاماً الآن، وقد هرب منذ عامين من معسكر الجماعة خارج تيرانا.
والآن، لا مكان له، يتجول في المدينة، وكله ندم، فضلاً عن اتهام رفاقه السابقين له بالتجسس لصالح عدوهم اللدود- حكومة إيران.
ولدى مجاهدي خلق تاريخ مضطرب ودموي. وبصفتهم متطرفين إسلاميين ماركسيين، فقد دعموا الثورة الإيرانية عام 1979 التي أطاحت بالشاه. لكن سرعان ما توترت العلاقات مع آية الله الخميني، عندما اتخذت الحكومة إجراءات صارمة، فكان على افراد الجماعة الهروب خارج البلاد للحفاظ على حياتهم.
وقدم العراق المجاور ملاذاً آمناً لهم خلال الحرب بين إيران والعراق (1980-1988)، وقاتلت الجماعة إلى جانب صدام حسين ضد وطنهم إيران.
كان غلام ميرزاي يخدم في الجيش الإيراني عندما أسرته القوات العراقية في بداية ذلك الصراع. أمضى ثماني سنوات كأسير حرب في العراق. لكن مع مرور الوقت، تم تشجيع السجناء الإيرانيين مثل ميرزاي على توحيد صفوفهم مع مواطني بلدهم، وهذا ما فعله.
أصبح ميرزاي الآن “مفصولاً”، أي أصبح في صفوف المئات من أعضاء مجاهدي خلق السابقين الذين تركوا التنظيم منذ انتقالهم إلى ألبانيا. وبمساعدة الأسر، تم دفع مبالغ مالية إلى المهربين لأخذ بعضهم إلى بلدان أوروبية أخرى، وربما عاد اثنان منهم إلى إيران.
لكن العشرات لا يزالون في تيرانا، يعيشون هناك بدون عمل بشكل رسمي لعدم امتلاكهم الجنسية الألبانية.
إذاً، كيف وجد أعضاء مجاهدي خلق التي كانت توصف بـ “جماعات إرهابية محظورة” في الولايات المتحدة، طريقهم إلى هذه البقعة من أوروبا؟
في عام 2003، غزت قوات التحالف العراق، وأصبحت حياتهم في خطر بعد اختفاء حاميهم، صدام حسين، وتعرضت الجماعة لهجمات متكررة قُتل وجُرح خلالها المئات من عناصرها.
اتصل الأمريكيون بالحكومة الألبانية في عام 2013 وأقنعوها باستقبال حوالي 3000 عضو من الجماعة في تيرانا خشية وقوع أسوأ كارثة إنسانية.
وقال لولزيم باشا، زعيم الحزب الديمقراطي الذي كان في الحكم في ذلك الوقت (المعارض حالياً): “لقد عرضنا عليهم اللجوء لحمايتهم من تعرضهم لأي هجوم وسوء معاملة، وإمكانية العيش بشكل طبيعي في بلد لا يتعرضون فيه للمضايقة أو الاعتداء أو العنف”.
هناك استقطاب شديد في ألبانيا، وكل شيء فيها محل خلاف، ولكن بطريقة فريدة نوعا ما تدعم الأحزاب الحاكمة والمعارضة الضيوف الإيرانيين.
كانت ألبانيا بالنسبة إلى مجاهدي خلق، بيئة جديدة تماماً، إذ اندهش ميرزاي عند رؤية الأطفال وبحوزتهم هواتف محمولة. ولأن بعض المجاهدين كانوا يقيمون في البداية في مبان سكنية على حافة العاصمة، فقد كانت قبضة الجماعة على أعضائها أخف من السابق.
في العراق، سيطرت الجماعة على كل جانب من جوانب حياة أفرادها، ولكن هنا في ألبانيا، وبشكل مؤقت، كانت هناك فرصة لبعض الحرية.
ويتذكر “منشق آخر” يدعى حسن حيراني، قائلاً: “كانت هناك جدراناً اسمنتية خلف الشقق، حيث كان يتوجب علينا ممارسة الرياضة يومياً هناك”.
كان حيراني وزملاؤه يستخدمون بعض الشجيرات والحشائش ليغطوا بها أنفسهم ويتسللوا إلى مقهى الإنترنت القريب منهم للتواصل مع ذويهم.
ويضيف حيراني: “عندما كنا في العراق، كنا نوصم بالضعفاء من قبل مجاهدي خلق إذا رغبنا بالتواصل عبر الهاتف مع عائلاتنا، لذا لم تكن لدينا أي صلة بهم، ولكن عندما أتينا إلى تيرانا، أصبح بإمكاننا استخدام الإنترنت للأغراض الشخصية”.
ومع اقتراب نهاية عام 2017 ، انتقلت الجماعة إلى مقر جديد. إذ تم بناء معسكر لهم على منحدر في الريف الألباني، على بعد حوالي 30 كيلو مترا من العاصمة.
وخلف البوابات الحديدية الفخمة، كان هناك قوس رخامي مثير للإعجاب وتعلوه تماثيل ذهبية لأسود، والأشجار على جانبي الطريق الذي ينتهي إلى نصب تذكاري مخصص لآلاف الأشخاص الذين فقدوا أرواحهم في صراع الجماعة ضد الحكومة الإيرانية.
الصحفيون غير مرحب بهم من دون دعوة. ولكن في يوليو/ تموز الماضي، حضر الآلاف من الإيرانيين إلى معسكر الجماعة للمشاركة في حدث “إيران حرة”.
وتجمع السياسيون من جميع أنحاء العالم، فضلاً عن الألبان المتنفذين وأفراد من قرية مانزي القريبة، وأعضاء مجاهدي خلق وقائدتهم، مريم رجوي في القاعة المزينة.
ألقى رودي جولياني، المحامي الشخصي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب كلمة أمام الحضور.
وقال: “هؤلاء كرسوا حياتهم للحرية”، في إشارة إلى أعضاء الجماعة الذين كانوا يرتدون الزي الموحد والمنفصلين عن الجنس الآخر والموجودين في القاعة.
وأضاف “إذا كنت تعتقد أن هذه عبادة، فإنك مخطئ تماماً، وتهدم كل شيء”.
ويدعم السياسيون الأقوياء مثل جولياني هدف مجاهدي خلق المتمثل في تغيير النظام في إيران. ويتضمن بيان الحركة الالتزام بحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين والديمقراطية والتعددية في إيران.
لكنها لم تعد تستهوي حسن حيراني وتركها في العام الماضي. ورفض ما اعتبره سيطرة القيادة القمعية على حياته الخاصة.
وكان حيرانى قد التحق بالمجاهدين في العشرينات من عمره، وانجذب إلى التنظيم لالتزامها بالتعددية السياسية.
ويقول: “لقد كان التنظيم مؤثراً للغاية. لكن إذا كنت تؤمن بالديمقراطية ، فلا يمكنك قمع روح أعضائك”.
كان حيراني مجبراً على حضور اجتماعات الجماعة “كان لدينا دفتر صغير، وكان علينا تدوين أي لحظات رومانسية نشعر بها، فعلى سبيل المثال، تدوين ما يلي: في صباح اليوم، شعرت برغبة جنسية”.
العلاقات العاطفية والزواج محظورة داخلها. لم يكن الأمر هكذا دائماً، فقد اعتاد الآباء والأمهات الانضمام إلى الجماعة مع أطفالهم. لكن بعد الهزيمة المدوية التي منيت بها الجماعة على يد القوات الإيرانية، قالت القيادة إن ذلك حدث بسبب انشغال الأعضاء بعلاقاتهم الشخصية. فعملوا على “الطلاق الشامل للعديد من الأسر أعضاء الجماعة، وأرسل الأطفال بعيداً عن أهاليهم، لتربيهم أسر بأوروبا.
وتعهد مجاهدو خلق غير المتزوجين الالتزام بعدم الزواج.
كما كان عليهم أن يدونوا في دفاترهم الصغيرة أحلام اليقظة أيضاً، على سبيل المثال، “عندما شاهدت طفلاً على التلفاز، تمنيت لو كان لدي ولد مثله، أو تمنيت لو أن لي أسرة أيضاً”.
وكان على العناصر أن يقرأوا من دفاترهم أمام قائدهم ورفاقهم في الاجتماع اليومي ما دونوه، “إنه أمر في غاية الصعوبة بالنسبة لأي شخص”.
والآن، يشبه معسكر الجماعة في مانز “مزرعة حيوانات” التي تجري فيها أحداث رواية جورج أورويل الذي انتقد المرحلة الستالينية في الاتحاد السوفيتي قائلاً: “ببساطة إنها عبادة”.
وصف مصدر دبلوماسي في تيرانا مجاهدي خلق بأنها “جماعة عقائدية فريدة من نوعها، وليست عبادة، وتشبه إلى حد ما العبادة”.
لم تتمكن بي بي سي من طرح أي سؤال على الجماعة لأنها رفضت إجراء مقابلة معهم.
لكن في ألبانيا هناك بعض التعاطف معها من قبل الحكومة التي تحكم بلداً عاش عقودا في ظل نظام قمعي وتسلطي، على الأقل مع موقف قيادة الجماعة فيما يتعلق بحظر العلاقات الشخصية.
وتقول ديانا كولي ، كاتبة وناشطة نسائية ونائبة سابقة في الحزب الاشتراكي الحاكم: “في المواقف القصوى، يمكنك اللجوء إلى خيارات متطرفة”.
“لقد تعهدوا بالقتال طوال حياتهم من أجل تحرير بلادهم من النظام الشمولي. أحياناً نواجه صعوبة في قبول الإيمان القوي بقضية ما. هذه تضحية شخصية، وهي عقلية أتفهمها”.
ومع ذلك، فهناك بعض الألبان الذين يشعرون بالقلق من وجود الجماعة في بلادهم خشية على أمن بلادهم القومي.
ويشعر مصدر رفيع المستوى في الحزب الاشتراكي بالقلق من أن أجهزة الاستخبارات تفتقر إلى القدرة على مراقبة أكثر من 2500 عضو من مجاهدي خلق الذين يتلقون تدريبات عسكرية. ويقول: “لن يقبلهم أي شخص لديه عقل هنا”.
يقول دبلوماسي إن بعض “المنشقين” يعملون بالتأكيد لصالح إيران. وقد اتهمت الجماعة، غلام ميرزاي وحسن حيراني، بأنهما عميلان لطهران، وهي تهمة ينفيها الإثنان.
الرجلان مشغولان حالياً بمساعدة أسرهم في إيران، وقام حيراني بفتح مقهى في ألبانيا، ويواعد فتاة ألبانية.
وعلى الرغم من أنه في سن الأربعين حالياً، إلا أنه أصغر من معظم رفاقه القادة ولا يزال متفائلا بالمستقبل.
كما أن ضميره يؤنبه على الأخطاء التي ارتكبها في حياته، وهو شيء اكتشفه عندما تواصل مع عائلته لأول مرة.
عندما ترك ميرزاي أهله للذهاب إلى الحرب ضد العراق في عام 1980 ، كان لديه ابن عمره شهر واحد.
بعد انتهاء الحرب بين إيران والعراق، جاءت زوجته وأفراد أسرته إلى معسكر الجماعة في العراق بحثا عنه. إلا أنه أرسل بعيداً ولم يخبروه شيئاً عن زيارة أسرته.
هذا الرجل البالغ من العمر 60 عاماً حاليا، لم يكن يعلم أبداً أنه كان الزوج والأب الذي يفتقده ابنه إلى أن وصل المنزل لأول مرة بعد 37 عاماً.
يقول: “لم يخبروني أن عائلتي جاءت للبحث عني في العراق. لم يخبروني بأي شيء عن زوجتي وابني”.
“فكرت طوال هذه السنوات في زوجتي وابني، وكنت أقول لنفسي إنهم ماتوا في الحرب/ لم أكن أعرف أي شيء عنهم”.
الابن الذي لم يره قط في حياته، منذ أن كان طفلاً صغيراً يبلغ الآن 40 عاماً تقريباً، وميرزاي يعرض بفخر صورة الرجل البالغ على تطبيق واتس آب، إلا أن إعادة التواصل معهم كان مؤلماً بالنسبة له.
يقول ميرزاي “كنت مسؤولاً عن هذا الموقف – الانفصال- لا أستطيع النوم جيداً ليلاً لأنني أفكر فيه طوال الوقت، أشعر دائماً بالتوتر والغضب، وأخجل من نفسي”.
يعاني ميزايي من عذاب داخلي لا يستطيع التعايش معه بسهولة، ولديه رغبة واحدة فقط الآن. “أريد العودة إلى إيران والعيش مع زوجتي وابني، هذه هي أمنيتي الوحيدة”.
زار غلام ميرزاي السفارة الإيرانية في تيرانا لطلب المساعدة، وقد ضغطت عائلته على السلطات في طهران. ومازال ميرزاي ينتظر الجواب، فهو بلا هوية، بلا جنسية وبل جواز سفر.
منقول من هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي